من الكابل البحري إلى الاتفاق الفلاحي.. المغرب يعيد صياغة موقعه الاستراتيجي بين أوروبا وإفريقيا
الحدث 24
يشهد المغرب حراكًا استراتيجيًا متناميًا يرسّخ موقعه كفاعل محوري في معادلات الاتصال والتعاون بين أوروبا وإفريقيا، سواء عبر مشاريع البنية التحتية الرقمية أو من خلال الشراكات الاقتصادية التي تعيد رسم خريطة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ففي الأقاليم الجنوبية، وتحديدًا بمدينة طرفاية، تتأهب المملكة لاحتضان أحد أبرز المشاريع التكنولوجية في المنطقة، يتمثل في مدّ كابل بحري جديد للألياف البصرية يربط السواحل المغربية بجزر الكناري الإسبانية.
هذا المشروع، الذي يُنتظر أن يدخل مرحلة التنفيذ سنة 2026، يُعدّ استثمارًا استراتيجيًا تبلغ قيمته نحو 13.5 مليون يورو، بتمويل جزئي من الاتحاد الأوروبي، وسيتيح ربطًا مباشرًا عالي السرعة بين الطرفين على بُعد لا يتجاوز المئة كيلومتر. الكابل الذي تشرف عليه شركة Canalink الإسبانية يمثل خطوة نوعية نحو استقلالية رقمية أكبر وتكامل تكنولوجي يعزز السيادة الرقمية للمنطقة، خاصة في ظل ما يشهده العالم من اضطرابات جيوسياسية تجعل من أمن البيانات مسألة سيادية بامتياز.
ويعتبر هذا الربط التقني أكثر من مجرد مشروع للاتصال، إذ يُرتقب أن يفتح آفاقًا جديدة للتعاون المغربي–الإسباني في مجالات الاقتصاد الرقمي والخدمات السحابية والبيانات الكبرى، إلى جانب تحويل الجنوب المغربي إلى محور لوجستي واتصالي يربط أوروبا بعمق القارة الإفريقية. كما يُتوقع أن يساهم في استقطاب استثمارات جديدة بمجال التكنولوجيا وتعزيز دور المغرب كبوابة رقمية نحو إفريقيا.
وفي الوقت الذي يُعيد فيه هذا المشروع تأكيد البعد الإفريقي للمغرب من خلال التكنولوجيا، يبرز على المستوى الاقتصادي والسياسي بُعد آخر لا يقل أهمية، تمثل في توقيع المغرب والاتحاد الأوروبي على تعديل الاتفاق الفلاحي بين الجانبين. هذا التعديل الذي وصفه الخبير الإسباني بيدرو إينياشو ألتاميرانو بـ“الفرصة التاريخية”، يعكس عمق العلاقات الثنائية ويؤكد أن التعاون بين الرباط وبروكسيل بلغ مرحلة النضج الاستراتيجي.
ويرى ألتاميرانو أن هذا الاتفاق لا يقتصر على تنظيم المبادلات الزراعية، بل يُعدّ رهانًا استراتيجيا لتوطيد الشراكة الأوروبية الإفريقية، خصوصًا أن الأقاليم الجنوبية للمملكة أصبحت نموذجًا للتنمية المتكاملة والاستثمار المنتج. وأضاف أن أوروبا اليوم تحتاج إلى المغرب أكثر من أي وقت مضى، سواء لضمان أمنها الغذائي أو لاستقرار سلاسل التوريد في حوض المتوسط.
إن الربط البحري بين المغرب والكناري من جهة، وتوقيع الاتفاق الفلاحي المعدل من جهة أخرى، يعكسان معًا رؤية مغربية بعيدة المدى تقوم على الدمج بين التكنولوجيا والاقتصاد، بين التنمية المحلية والانفتاح الإقليمي، وبين السيادة الوطنية والانخراط في النظام الدولي الجديد. فالمملكة اليوم لا تكتفي بدور “الممر”، بل أصبحت هي “الجسر” ذاته الذي تعبر من خلاله المصالح بين أوروبا وإفريقيا في زمن التحولات الكبرى.