في لوحات سهام الطاهري، ماء يترقرق نشيدا قدسيا

0

ورشة يغمرها الماء. ينهمر مطرا في هذا الركن، ينساب رقراقا على جدار، يحضن برأفة انعكاس جسد ماثل عند نافورة جنان السبيل، يرتج زخات غامرة، منذرة بغضب سماوي أو حاملة لوعد تطهر يجدد الرؤية. ثم تختص لوحات أخرى بماء يحجب الرؤية، أو يعطلها، إذ يهطل على الزجاج الأمامي للسيارة في يوم داكن، فتتشوه الوجوه وتنكسر الأشياء أو تتلبس بالغموض، ويتلبد أفق البصر.

بالماء عالم سهام الطاهري في هذا الطور الناضج من مسارها التشكيلي. في شقة أنيقة بوسط المدينة، تكاد اللوحات الزيتية تصنع ضجيجها السري قطرات وأمواجا، بماء قدسي يحيل في القاموس والممارسة الصوفية بتعدد تجلياتها ومشاربها إلى مادة شفافة مطهرة يستهل بها الكائن رحلة ارتقاء وتوحد.

مادة توحد المشاهد لكن حركة الفرشاة ناطقة بأحوال مختلفة، تهدي انسيابا منعشا وتأمليا حينا وترج الكائن من أعماقه حينا آخر. الماء إغفاءة وجود تحنو على زرقة السماء، والماء رعشة فناء وغضب طبيعة. فنيا، هو موضوع صعب لأنه الحركة والانفلات، فلسفيا هو الشيء ونقيضه: الارتواء والعطش. وجوديا، هو ماء الولادة الذي يسبح فيه جنين تائه الوجهة.

الماء والدمع من نبع واحد. فتنته قديمة عند سهام الطاهري ببعده الإيكولوجي والشعري والصوفي، لكن اللحظة التي فجرت هذا النزوع التعبيري محفورة بدقائقها في ذاكرة تمزق الحبل السري. كانت تغادر للتو مكتب الطبيب الذي أنذرها برحيل وشيك للأم. سال دمعها بغزارة وعزفت السماء لحنا مصاحبا من مطر غزير، فتمخضت اللوحة التي توثق الشارع التي وقفت تتأمله من وراء زجاج السيارة، بأفقه الدامس ومشهده المضبب. بتقنية التمويج، تصنع في لوحة موضوعها مشهد واقعي غبشا لمقاومة استسهال النظر، وتعطيل المعنى المباشر للمرئي، والزج به في احتمالات وأبعاد أخرى.

بالماء فضلت سهام أن تكرم ذكرى الوالدة قبل وداعها الأخير. في اللوحة التي لن تعرض للبيع أبدا، يرتسم وجه امرأة أغمضت عينيها برضا وسلام مغمورا بماء شفاف يحفظ تفاصيل وجهها. وجه متخيل لكائن جد حقيقي يسكنها.

تجريدية سهام الطاهري لا تقطع مع الواقع بل تهدمه لتعيد ترتيب عناصره. أكثر من ذلك، تعكس أعمالها حسا فوتوغرافيا دقيقا يربط العمل الفني بالموضوع، يمكن بمجهود تأملي فرز أماكن بعينها في المدينة طوعتها فرشاة الرسامة، حتى أن لوحة تسجيل السيارة في عمق الإطار تجذر الارتباط بالمكان.

كذلك ترد بالنفي عن شبهة هروبها من سلطة المناظر وجماليات فاس بأسوارها ومعالمها وألوانها إلى لانهائية المجرد. فاس حاضرة لكن بشكل آخر، بأسلوب مغاير. فسهام تجاوزت منذ سنوات، بوعي، مرحلة تصويرية كانت طبيعية في بداياتها، مرحلة اختبار العين في صلتها المباشرة بالمحيط الاجتماعي والمعماري. رسمت الأسوار والأبواب والقطع الخزفية وفاء لذاكرتها، واحتفت بالمرأة المغربية في وضعيات مختلفة، بوجوه يغلب عليها نوع من الحياد، والصمت المقاوم أحيانا، دون نزعة نسوية معلنة.

تعلمت أسرار الضوء والظل وكيمياء الألوان، قبل أن تحلق في سماوات أخرى. للأزرق حظوة في ورشتها، هو المتصل بعالمها المائي وأفقها الصوفي.

فاس المدينة، وفاس الأم أحكمت طوقها لتستعيد إلى حظيرتها تلك الطفلة المرأة التي غادرتها بعد أن حازت في جامعتها دكتوراه في البيوتكنلوجيا، لتواصل مسارها العلمي والمهني داخل مكاتب شركة صيدلانية كبرى بالبيضاء. الشغف يخمل ويحاصره تعب اليوميات المتلاحقة، لكن النجاح قاصر المذاق وهو يفصلها عن المرسم ووجه الأم وفضاء النور المنسكب من أنفاس المدينة. لذلك، كان شعورا بخفة الكائن وهي تودع استقالتها من مؤسسة تدين بفضل تشجيعها على التواصل مع الجمهور في معارض خاصة مناسباتية ورطت إبداعاتها في رهان التلقي.

الحس الفني مكون طبيعي في البيت الفاسي العتيق. تشربته من صرامة “السماق والتاويل” وطقوس ترتيب البيت، وأشكال التنجيد والأزياء التقليدية والموسيقى التي لا تنقطع بين كلاسيكيات الشرق والتحف الأندلسية. وفي محيط اجتماعي تختص به الأحياء العتيقة من قبيل حي الرصيف، انخطف هوى الطفلة بالمشغولات اليدوية لأمهاتها من نساء الحي، حين كانت الوالدة منشغلة قسرا بساعات الوظيفة. تجرأت الأنامل مبكرا على صباغة الحرير والطرز، حتى أنها أقدمت على بيع وسائد حريرية تحمل توقيعها في محيطها العائلي الذي تفطن إلى موهبتها دون أن يرخص لها احترافا أو تخصصا اعتبروه مجازفة بالمستقبل.

ظلت تتعهد عشقها بالتردد على خزانة المعهد الفرنسي والتهام الكتب الفنية بنفس عصامي مكنها من الاطلاع على المدارس والقواعد النظرية العامة للرسم واستلهام تجارب بعض الرواد الذين تعدهم معلمين ألهموها الطريق. تستدعي باستمرار تأثير الفنان محمد كريش، التشكيلي الذي أهدى مسقط رأسه، فاس، عصارة موهبته تخليدا لجماليات المدينة العتيقة. تمثلت أسلوبه في صناعة الظلال ومزج الألوان. تحكي بامتنان عن تأثير حسن العلوي والرائد فؤاد بلامين.

بمعزل عن القلق الإبداعي الخاص، لا ينفصل الإبداع الفني لدى سهام الطاهري عن منظومة قيم مواطنة يقع عليها عاتق بذرها في كيانات أطفال يحاصرهم المد التكنلوجي من كل صوب ويكتسح عالمهم شبح حياة افتراضية طافحة بالأوهام.

تستقبلهم في مرسمها أو تمضي إليهم في مشاريع بيداغوجية تمر عبرها رسائل التحسيس بالقضايا النبيلة. يحضر في المشروع بقوة سؤال التراث المعماري لفاس، فكانت الثمرة لوحات خلد فيها الصغار اكتشافهم لجماليات مكان يعيشون فيه غرباء عن نفائسه وذخائره التليدة. زادت الرسامة الراعية بأن شجعتهم على دس وجوه تاريخية متخيلة لشخصيات طبعت المدينة من قبيل ابن خلدون وابن عربي وابن رشد في لوحاتهم المزدانة بحيوية الطفولة.

الفن في قناعة سهام الطاهري فاعل في استدامة هوية تحيق بها احتمالات التيه والتحلل في ماديات عولمة كاسحة. ليس غريبا وعيها الحاد بالعمل في المجتمع ومن أجله، فلسهام خالان تعهدا روحها النقدية وريادتها المواطنة اسمهما: محمد جسوس، القيادي الاشتراكي وأحد رواد علم الاجتماع بالمغرب، ونزهة جسوس، الباحثة الجريئة والحقوقية ذائعة الصيت صاحبة “امرأة في بلاد الفقهاء”.

فاس موئل الضيق وترياقه. تفر كلما علا الضغط إلى مرتفع البرج الشمالي الذي يمنح العين بانوراما فاضحة لجغرافية المدينة العتيقة. تترقب صوت آذان المغرب في العلو، وتقتفي انسحاب آخر خيوط الشمس بينما ينيخ الظلام على المشهد. حينها تدرك تلك الرشاقة الروحية الثمينة. عينها المتوثبة لرصد الجمال تقف بتكرار لا يمل أمام باب أبي الجنود، تتنقل عبر المدار الروحي الرابط بين جامع القرويين وضريح مولاي ادريس والزاوية التيجانية، تمحص من فناء المدرسة البوعنانية في تفاصيل الإبداع اليدوي.. هناك في فاس دائما مكان لاستعادة التوازن في الأوقات الصعبة.

تسعفها الفرنسية أكثر في تواصلها الفني والمهني لكنها اهتدت إلى طريق يناسبها لاستعادة العربية بجمالياتها الشعرية والموسيقية. لم تتحرج سهام الطاهري التي تعزف على العود من الانضمام إلى كورال جوق عبد الكريم الرايس الذي يديره أحمد بريول. من أفنان الأندلسي، شعرا وطربا، تعانق قارئة آليف شافاك وعاشقة شمس التبريزي عالمها الصوفي الذي توجزه بكلمة: الحب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.