التلوث: أي ثقافة تقبع هنالك؟!!

0

الحدث 24 : بقلم / أحمد دراوي        

وأنت داخل إلى “دوار بوزملان” الذي هو في الواقع تعاونية فلاحية المسماة النصر، يبادرك بالإستقبال مجرى من المياه العادمة يسير بمحاذاة الطريق وعلى طولها، أو كما يسميها ذوو الإختصاص: “المياه الرمادية”، حيث ستلاحظ أن أنابيب بعض المنازل لهذه المياه، تفرغ حمولتها بشكل سافر  في الهواء الطلق !  وإن بلغ بك الحال وتوسطت “الدوار”، فإن الشك سيساورك حول ما إذا كنت قد أخطأت الطريق ودخلت مقبرة مهجورة؟ وذلك بسبب تلال النفايات والأشواك التي يكافح أهلها لسد الطرقات الداخلية أو تضييقها على الأقل، والتي تحجب المنازل القديمة المتهرئة والتي بدورها فقدت شكل المنزل وصورته، وباتت تبدو كما لو كانت بنيان أضرحة المقابر أو خربات مهجورة لولا وجود الأحياء !
بسرعة يتبادر إلى ذهنك سؤال بديهي يطرحه عليك وعيك: كيف يعيش هؤلاء في هذه الأزبال؟ لكن الإجابة عن هذا السؤال البديهي، لن تتأتى لك ما لم تكن في مقام “فرويد؟ !” من الجرأة والمغامرة العلمية لتطرح تساؤلات لم تخطر على الناس بنفس الصيغة التي تطرحها أنت. ويزيد من استغرابك هذا، كون الساكنة يمارسون الأعمال الفلاحية (تعاونية فلاحية)، أي أنهم يملكون قطعا أرضية مهمة، كان بالإمكان نقل هذه الأزبال إليها على سبيل التسميد ! و لكنهم لم يفعلوا ! فهي هناك منذ أكثر من ثلاثين سنة ! وهي مستمرة في الوجود والنمو وكأنما هناك علاقة حميمية ما بينها وبين أهلها؟
أتذكر عندما كنا نلعب الكرة  في بعض الممرات التي لا تتعدى في عرضها اليوم المترين بعد أن كانت تزيد عن العشرين، وأتذكر بعض البقع التي كنا نجتمع فيها والتي دفنت ربما إلى الأبد تحت ركامات المزابل ! وربما سيأتي يوم إن استمر الحال على ما عليه ـــــــ ولا مؤشرات تلوح على التغير إلى حدود الآن ـــــــــ ستغلق فيه كل الممرات وتصبح عبارة عن جحور ومفاوز كالتي نجدها في الأجمات الكثيفة في الغاب !؟
إن الإجابة عن السؤال الذي يبدو بدييهيا، تتطلب حسب اعتقادي دراسة علاقة الناس بالمجال ورصد تصوراتهم حوله، لأن الناس حسب ” إميل دوركهايم”: “تعيش وفق تصوراتها الإجتماعية”، ولكن لن تكون هذه النظرية كافية لفهم هذه العلاقة ما لم تصاحبها دراسة نفسية وأخرى أنثروبولوجية ولو بشكل متقتضب وسطحي جدا بحيث لا تتعدى الفكرة العامة التي يمكن استخلاصها بعد ملاحظة دقيقة للوضع، وهو الأمر الذي أكد عليه “ماكس فيبر” حيث يرى أن الظاهرة الإجتماعية لها عمق فردي ونفسي إلى جانب أبعادها الثقافية والإجتماعية. والسؤال المبدئي المشروع الآن والذي يتخذ صيغة نفسية هو: كيف هو شكل البنية النفسية للناس في هذا “الدوار”؟
    ليس من الصعب التعرف على نفسيات الناس أمام هذه المعطيات الوافرة في الواقع، فإذا كنا نقول في الماضي أن “الإنسان بن بيئه” أي في الزمن الذي كان فيها الإنسان يتعلم من الطبيعة وهو يقف عاجزا أمامها، فإن اليوم وقد تمكن من جزء كبير منها، فإنه يجدر بنا أن نقول:”البيئة بنت الإنسان” أي أن الإنسان هو الذي أصبح يؤثر في مجاله ويصنعه وفق معطياته ومقاساتها وأبعادها؛ وعليه فإنه من المنطقي والحالة على هذا النحو، أن المجال هو تجسيد لنفسية وفكر ساكنيه وثقافتهم وتصوراتهم، ومادام هذا المجال على هذا النحو من الفوضى والتجاوزات واللامبالات، فإن الفكر القابع خلف مختلف السلوكات التي أنتجت كل هذا، هو ببساطة فكر متخلف وبدائي، فأما التخلف فيعني أن الناس متخلفين عن الركب والمسيرة التطورية نحو تحقيق الأفضل في كل مجالات الحياة وتجويدها، ومنها مجال السكن، وأما البدائية فتعني التقوقع والإنغلاق داخل تصورات خامة لم تخضع بعد للنحت وللصقل، وهي مشابهة لتلك الني كان يحملها الأسلاف البعيدين، أي ماهي إلا انطباعات ذاتية أولية مشبعة بالأنانية المطلقة، وذلك لكون البدائي لم يتجاوز حسه بعد ذاته وما تملكه ومازال لم يتعرف إلى الكون من حوله حتى يدرك الإختلاف ويؤمن بالمغايرة.
      والنتيجة التي يمكن تحصيلها من هذه السطور وهي ذات صبغة نفسية هي أن التخلف ناتج عن الأنانية، والأنانية ناتجة عن الأفكار الأولية والبدائية التي لا تتجاوز محيط الذات، ويتضافر الإثنان لينتجا معا الجهل، فالجاهل هو إنسان أناني ومتخلف بدائي، ونفسيته بالتالي لا تعرف الإستقرار أبدا،  فهي في اضطراب مستمر ينتج بعضه بعضا ، وذلك لكون الأناني يعيش في قلق دائم وخوف قائم من كل شيء، من جاره، من صديقه، من أبنائه، من مجاله …إلخ، وهذا الخوف والقلق ناتج عن صورة ” الأنا في مقابل الكون”  لدى هذا الصنف من البشر، فهم يَعْمَوْنَ عن رؤية مادون ذواتهم، وكل ما هو وموجود حولهم يقسمونه إلى شطرين، جزء في ملكيته يدافع عنه ويحميه بكل قواه، وجزء خارج ملكيته يسعى إلى إلغائه عن طريق تخريبه وافتراسه !! فالخوف والعنف مترادفان، والأول ينتج الثاني لزوما، الأمر الذي أكدته إحدى الدراسات الروسية حول وحشية الحيوانات المفترسة وأسبابها.
    وفي مقابل هذه النفسية المضطربة، الخائفة والقلقة على الدوام والمستعدة في نفس الآن للإنقضاض على كل مغاير ومخالف يجول في الجوار، تنتج مخيلة الإنسان الأناني ركاما من الأفكار التي تحمل سمات نفسيته العليلة، وهي تصورات مصممة وموجهة لتحقيق الأمن والإطمئنان النفسيين المفقودين، والصلابة والإفتراسية هي أهم ما يميز هذه الأفكار التي تصبح ثقافة اجتماعية في الجماعات البشرية عندما تكون الأنانية هي الغالبة على أفرادها.  وهذا الإستنتاج الأنثروبولوجي حول ثقافة الجماعات الأنانية يفضي بنا في عجالة إلى استنتاج سوسيولوجي مفاده أن السبب الحقيقي في تلوث المجالات السكنية، ناتج عن كون ساكنته تقسمه إلى قسمين:
1 ـــــــــــ قسم داخل في الملكية وواقع تحت التصرف تتم حمايته بصلابة وعنف.
2 ـــــــــــ قسم خارج الملكية والتصرف يتم إتلافه وتدميره بكل شراهة وشراسة.
وخلاصة القول أن الإنسان الذي لا يحترم مجاله وضمنه جيرانه والإنسانية عامة، هو إنسان مفترس، لأن تخريب المجال بالتلوث والسطو عليه واستغلاله، هو سلوك افتراسي مسبوق بنية وأفكار تحمل نفس السمة، وهذا السلوك موجه منه نحو كل ما يخافه ويقع خارج سلطته سواء أكان أرضا أو إنسانا أو أي شيء آخر، ـــــــ وقد أثبت أحد ساكنة هذا “الدوار” خلال بضعة أسابيع مضت، صحة هذا التأويل بشكل كبير لا يدع مجالا للشك فيه، وذلك لما أقدم هذا الأخير على تسميم دجاج الجيران، حيث قتل في هذه العملية التي لا يمكن إلا أن توصف بالإفتراسية، أربعة عشر طائرا مابين ديك ودجاجة !؟ ـــــــــ لأن الإقرار بالغيرة والمخالفة موت في نظر الإنسان الأناني والبدائي أيضا، وهي المعضلة التي ترعبه وتقض مضجعه باستمرار،  ويتجند بالتالي لمقاومتها بكل ما أوتي من الإمكانات والوسائل !! لذلك تجد الإنسان البدائي أكثر عنفا من المتحضر، لأنه أكثر خوفا منه وأقل إدراكا للواقع أيضا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.